أرجوحة التنفس .. مقطع من هرتا مولر

مقطع من رواية هرتا مولر الأخيرة ” أرجوحة التنفس “

ترجمة : ياسر عبد الله

(تمت الترجمة في أكتوبر 2009)

 

كل ما أملكه احمله معي

أو : كل ماهو ملكي محمول معي

حملت كل ما كنت املكه، لم يكن كله ملكي، في الحقيقة، كان إما مصنوع لغرض آخر، وإما مملوك لشخص آخر . الحقيبة المصنوعة من جلد الخنازير كانت صندوق جرامفون، بالطو الشغل كان من والدي، بالطو الخروج بالياقة القطيفة من جدي، البنطلون القصير من عمي إدﭭين، القلشين الجلد من جارنا، الهر كارﭖ Herr Carp  ، والجوانتي الأخضر من عمتي فيني، الايشارب الحرير النبيتي وعلبة الماكياج، فقط، كانا ملكي، هديتان من الكريسماسات التي فاتت .

كانت الحرب لازالت مندلعة، في يناير 1945، وجاءتني الصدمة، في زمهرير الشتاء، كان سيتم ترحيلي، لأين الله أعلم، بواسطة الروس، كل واحد أراد أن يعطيني شيئًا يمكن أن يصلح، ربما، حتى ولو لم يكن ينفع، لأنه لا شيء في الدنيا ينفع، قُضي الأمر : كنت على قائمة ترحيلات الروس لذا أعطاني كل واحد حاجة وقاموا بإستنتاجاتهم الخاصة، أخذت الحاجات، وقمت باستنتاجي الخاص : الوقت حان للرحيل، كان باستطاعتي فعل ذلك حتى ولو تكن هناك قائمة، ولو لم تسوء الأمور كان ذلك حتى سيكون جيدًا لي، أردت الابتعاد عن تلك المدينة الصغيرة كالحُق، حيث للأحجار كلها عيون، لم أكن خائفة بقدر ما كنت غير صبورة في داخل، وكان ضميري يؤنبني لأن القائمة التي سببت لاقاربي كل هذا الغم، كانت بالنسبة لي، مُحتملة، خافوا أن يجرى لي شيء في بلد أجنبية، وأردت أن اذهب لمكان لا يعرفني فيه أحد .

لكن شيء ما كان قد حدث لي بالفعل، شيء ممنوع، كان غريبًا، وسخًا، قليل الحياء، وجميلاً، حدث ذلك في الحديقة مع كل البالغين، بعيدًا في الخلف، وراء التلال ذات الحشيش القصير، وفي طريق العودة للبيت، ذهبت إلى منتصف الحديقة، إلى المقصورة الدائرية التي تعزف فيها الاورسكترا في العطلات الرسمية، بقيت جالسةً لفترة، ونفذ الضوء عبر الغابة المنسقة بعناية، وكان بإمكاني رؤية خوف الدوائر الخالية، والمربعات، وعقل الترابيز، والسلك الابيض بالاشواك المسننة التي تربطه ببعضه، كان تلك هي الصورة المثلى لشرودي، والصورة المثلي لرعبي أمام وجه أمي، في تلك المقصورة اقسمت لنفسي : لن أعود إلى هذه الحقيبة أبدًا .

وكلما حاولت منع نفسي، كلما عدت أسرع، – بعد يومين، إلى راندﭭوهي [1]Rendezvous كما كان يسمى في الحديقة .

ذهبت لل راندﭭو الثاني مع نفس الشخص الأول، كان يدعى البجعة، والرجل الثاني كان جديدًا، كان يدعى شجرة الشربين، والثالث كان يدعى الأُذن، بعد ذلك جاء الخيط، ثم العصفور الصَفّار[2] والكاب، وفيما بعد، الأرنب البري، القط، النورس ثم اللؤلؤة، فقط عرفنا لأي واحد ينتمي أي أسم، كانت هناك ساحة للألعاب في الحديقة، ابتعدت داخلها، كان الجو صيفًا، وشجر البتولا يكسوه لون ابيض، والحائط النباتي الأخضر الذي لا يمكن إجتيازه ينمو بين الياسمين والأيك الأقدم .

للحب مواسمه، وضع الخريف نهاية الحديقة، صارت الغابة عارية، انتقل الراندﭭو إلى حمام النبتونه Neptune، بجوار بوابة الحمام كانت هناك بوابة بيضاوية عليها بجعة، كل اسبوع، كنت اقابل الرجل الذي كان ضعف عمري، كان رومانيًا، كان متزوجًا، ولن أقول الآن ماذا كان اسمه، ولا اسمي .

وصل كلٌ منا على حدة : السيدة الجالسة لقطع التذاكر، خلف الشباك الرصاصي، الأرضية الحجرية اللامعة، العمود المستدير في المنتف، قرميد الحوائط المتخذ شكل الزنبق، السلالم الخشبية المحفورة – كل هؤلاء ما كانوا يجب أن يعرفوا اننا خططنا لنلتقي، ذهبنا إلى الحمام وعُمنا مع الاخرين كلهم، وفي الساونا، فقط، التقينا أخيرًا .

لنرجع إذن، قبل معسكر التجميع بقليل – وكما سيكون الأمر عن عودتي، حتى غادرت البلاد، في 1968، أي راندﭭو كان سيعني حكًما بالسجن، خمس سنوات، على الأقل، لو كان قد أُلقي القبض علي، كان الكثيرون، بعد تحقيق وحشي، يساقون مباشرة من الحدائق والحمامات العمومية إلى السجن، ومن هناك إلى معسكر الإعتقال بجوار القناة، الآن أعرف : لم يعد أحد من القناة، ومن عاد عاد جثة متحركة، كبر في السن، واستنزف، ولم يعد صالحًا لأي نوع من الحب .


[1] بالفرنسية في الاصل، وقد ابقيتها على فرنسيتها لكونها مستخدمة في العامية المصرية حيث يبدو ان اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية للحب

[2] ويعرف أيضًا بالصفارية، عصفور أصفر في اسود منقاره أسود ( الاسم العلمي Oriolus )

About yasirabdullah

مدون منذ عام 2005، وكاتب له رواية واحدة هي (حكايات الصولي) (2008) ومترجم وباحث موسيقي له محمد عبد الوهاب صانع موسيقى القرن (وثائقي ٢٠١٦) وعدة حلقات وثائقية متنوعة عُرضت على قنوات Art. نشرت له دوريات عديدة منها جريدة العرب اليوم الأردنية وموقع قديتا وموقع قاب قوسين. محرر سابق في مجلة معازف.
هذا المنشور نشر في بابل, تلاوات الكهان, حكايات العابدين وكلماته الدلالية , , , , . حفظ الرابط الثابت.

أضف تعليق